بسم الله الرحمن الرحيم
لأنه من عند الحكيم العليم سبحانه؛ فإن هذا الدين لا يمكن أن تتعارض حقائقه ولا أحكامه، ومتى وجدْتَ ـ أخي الكريم ـ تعارضاً بين حقيقتين ثابتتين في شرع الله فاعلم أن التعارض إنما حصل عندك أنت بسبب عدم فَهْمِك لهما، ولَمَّا سَبَق بيانُ أن الاستقامة على شرع الله تعالى هي السبيل الأوحد للسعادة الحقيقيَّة، ثار في أذهان البعض تعارضٌ بين هذه الحقيقة وبين قوله صلَّى الله عليه وسلَّم ( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ) رواه مسلم، وصَعُبَ عليهم أن يتصوروا كيف سيكونون باستقامتهم سُعَدَاءَ في الدنيا وهي لهم سجن، فإن كنت ـ أخي ـ من هؤلاء أصالةً، أو ثار عندك الإشكال الآن فقف معي مع هذين التوجيهَين لمعنى الحديث، بعد أن تُقرِّر في قلبك الحقيقةَ التي سبَقَت في أول المقال
ومَبنى التوجيه الأول : أن سَجْنَ الإنسان ومَنْعَه عَمَّا تشتهيه نفسُه قد يكون فيه مصلحتُه، ولهذا لا يغضب المريض المتألِّم إذا مَنَعَه وحَبَسَه طبيبُه الماهرُ المشفق عن أكل طعامه المفضَّلِ، إذا كان يضرُّه أو يزيدُ مرضَه، ولا يَعُدُّ ذلك حِرماناً بل يَعُدُّه حمايةً؛ إذ الحبس والمنع لا يكون حِرماناً إلا إن صَدَرَ من جاهلٍ أو عدوٍّ، وأنت توقِن أن الله تعالى هو العليم الرحيم في كلِّ شرعه .
والتوجيه الثاني : أنَّ في الحديث مُقارنةً خفيَّةً بين الدنيا والآخرة، يُقرِّبها إلى ذهنِك أنَّك إذا سمعتَ من يقول ( رحم اللهُ أيَّامَ الضيق، يوم لم أكن أملكُ إلا عشرةَ ملايين ) فسيَمْلَؤك العَجَبُ، لكن إذا علمت أنَّ المتكلم تاجر تبلغ ثروتُه قرابةَ المليار؛ فإن عَجَبَك لن يَظلَّ كما هو، وكذلك سعادة الروح في الدنيا مهما بلغت فلن تُقارنَ بكمال السعادات في دار الهناء والحُبور، في جوار الربِّ الشكور سبحانه .
وتأمَّل معي في هذا الجواب الحكيم من ذلك القاضي الفقيه الوجيه الذي اجتمعت له السعادتان، لَمَّا اعترضه عبد يهوديٌّ فقير اجتمعت عليه التعاستان، وحاول إحراجَه بسؤاله عن الحديث السابق وكيف يكون صحيحاً والقاضي مؤمن سعيد وهو كافر تعيس، فأجابه القاضي قائلاً ( إذا صِرْتَ أنت غداً إلى عذابٍ كانَتْ هذه جنَّتُك وإذا صِرْتُ أنا إلى نعيمِ الله ورضوانِه كان هذا سِجني )
أعِد ـ أخي الحبيب ـ تدبَّرَ هذه القصة، واعلم أنَّك في أمسِّ الحاجة لفهم هذه المقولة لتُسكِتَ بها أصوات الراغبين في عودتك إلى التردُّد، ولتُخمِدَ بها نار الاضطراب التي قد يوقدُها الشيطان في قلبك بين فترةٍ وأخرى، واصبر قليلاً، فالموعد الجنَّة