فاتحة القول في ما آلت إليه المعارضة وفي أزمتها الخانقة ، أن المعارضة من حيث هي ، تعبير عن ضرورة سياسية تتوحد وتندمج فيها أبعاد وطنية وديمقراطية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية ، ومن حيث هي آلية جمعية ، من المفروض أن ’تكرس لتحقيق تلك الأبعاد ، التي تتمثل ، في تحرير المجتمع بكامله ، من الميز السياسي الشمولي والاستئثار بالسلطة ومنظومة القمع ، وفي إعادة بناء البلاد على أسس قيم الوطنية الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة على آفاق التقدم الإنساني والحضاري .. مامعناه ، أن كل المهمشين والمضطهدين سياسياً واجتماعياً وإنسانياً هم معنيون بالفعل المارض ، وعلى عواتقهم تقع مسؤولية بناء وإعادة بناء المعارضة ، وتصويب الفعل المعارض وإنهاضه وانتصاره .. وما معناه أيضاً ، أن على المعارضة حتى تكون قوية وقادرة على تحقيق أهدافها ، ينبغي أن تكون المعبر بصدق وشفافية عن هذه القيم مجتمعة ، ما يوفر لها قاعدة اجتماعية واسعة قادرة على تحقيق التغيير المنشود في البلاد ، هي أي المعارضة التي تحمل هذه الحيثيات عصية على الخصخصة ، ولاتستوي مع نزعات الاحتكار من قبل أي تنظيم أو ائتلاف أو رمز سياسي تارخي .
ولذا ، ليس من نافل القول ، أن عدم بناء المعارضة السورية ( بمختلف أطيافها ) على هذه القيم منذ انطلاقتها في مواجهة اختطاف السلطة عام 1963 حتى الآن ، ووقوعها بأفخاخ المبارزة النخبوية مع النظام في مختلف عهوده المتوالية ، التي دفعتها للبحث عن مصادر دعم خارجية مفخخة إقليمياً ودولياً أيضاً ، قد عزلها وأضعفها ، وحول المياه إلى طاحونة النظام .
وقد أثبتت التجربة التاريخية المريرة للمعارضة ، أن مثل هذه المبارزة مع قوى النظام بإمكانياته السلطوية وآلياته القمعية هي خاسرة . سيما وأن مصالح الخارج ، التي يمتلك ويتقن النظام وحده القدرة والخبرة في التعاطي معها ، تشكل " بيضة القبان " في جدلية داخل / خارج في عملية الصراع على السلطة . وصفحات الصراع النخبوي .. الدموي .. المؤلم .. الفاشل .. في المراحل السابقة شاهدة على ذلك .
وقد كانت أولى حلقات مسلسل الصراع النخبوي ، هي محاولة الانقلاب التي قادها العقيد " جاسم علوان " ، بعد أشهر قليلة على انقلاب 8 آذار 1963 ، في 18 تموز 1963 ، للإطاحة بالبعثيين الذين غدروا بالضباط الناصريين ، وإعادة سوريا إلى دولة الوحدة مع مصر ( الجمهورية العربية المتحدة ) . لكنه فشل واعتقل ، ومن ثم تم ترحيله بصفقة مع عبد الناصر إلى مصر ، ليعود بعد 41 عاماً وهو في الثمانين من عمره .. مقيداً بالاستقالة من السياسة حتى الممات .
ثم تلت ذلك حلقات أخرى ..
في نيسان 1964 قاد الشيخ مروان حديد من جماعة الأخوان المسلمين اعتصاماً احتجاجياً في مسجد السلطان بحماة ، ما لبث أن تحول إلى عصيان مسلح . وتمكن الشيخ ورجاله من السيطرة على وسط المدينة ، ما أدى إلى شلل السفر لأيام عدة مابين جنوب وشمال سوريا عبر حماة . وانتهى ذلك الاعتصام باعتقال الشيخ مروان وقتل واعتقال العديد من أتباعه .
وفي صيف 1964 برزت في مدينة حلب حركة " ناصرية " مسلحة . سميت بحركة " النسيمي " نسبة لاسم عائلة المسؤول الأساسي فيها . وقد قامت هذه الحركة على مدى شهر تقريباً بسلسلة من عمليات السطو على مخافر للشرطة في المدينة . وقد أنهى اللواء الخامس المدرع تلك الحركة باعتقال وإعدام العشرات من المشاركين فيها .
وفي نيسان 1967 برز الشيخ ، " عبد الرحمن حبنكة الميداني " الذي قاد من أحد مساجد حي الميدان بدمشق حركة احتجاج إضرابية تكفيرية ضد النظام . لكن هذه الحركة قد تمت تصفيتها بسرعة . وتلاشت من الذاكرة بسرعة أيضاً .
مابعد انقلاب 23 شباط ( اليساري ) وإسقاط عهد القيادة " اليمينية " القومية لحزب البعث الحاكم ، تكرس انقسام عدائي بين نظام البعث في العراق ونظام البعث في سوريا . وقد أدى ذلك إلى نشوء حقبة من التآمر ضد بعضهما البعض ، وإلى سلسلة من الاغتيالات في أوساط المسؤولين في البلدين ، وتبني كل منهما خصوم ومعارضي الطرف الآخر . ونشأت في العراق ( جبهة الخلاص الوطني للإنقاذ ) لإسقاط البعث السوري ، التي ضمت القوى والشخصيات السورية اللاجئة إلى العراق هرباً من بطش النظام في سوريا . وكان من أبرز تلك القوى جماعة الأخوان المسلمين وحزب البعث السوري ( القيادة القومية ) والاشتراكيين العرب .
وقد وقع في النصف الثاني من عقد السبعينات في القرن الماضي عدد من التفجيرات والاغتيالات اللافتة في دمشق وغيرها من المدن السورية . كان أكثرها خطورة هي مجزرة مدرسة المدفعية بحلب ، ذات الأبعاد الطائفية البشعة ، في حزيران 1979 ، بقيادة النقيب إبراهيم اليوسف وحسني عابو من الطليعة المقاتلة الإسلامية ، التي أودت بحياة نحو مائة من الطلاب الضباط الأبرياء ، وافتتحت حالة حرب ( عنف وعنف مضاد ) طائفية بين الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية وبين النظام ، مازالت منعكساتها التدميرية على الحياة السياسية والمجتمعية مستمرة حتى الآن . وكانت أكثر تجلياتها بشاعة ووحشية وكارثية هي ، مجزرة تدمر الوحشية التي تمت بأمر من عم الرئيس " العقيد رفعت الأسد " ، وتدمير أحياء بكاملها في مدينة حماة ، التي كانت ساحة لأكبر المواجهات عام 1982 في تلك الحرب ، والتي راح ضحيتها عشرا ت آلاف الضحايا والمفقودين ومكابدة المزيد من الآلاف من مختلف ألوان الطيف السياسي المعارض السجن والاعتقال لسنوات طويلة .
بعد وفاة الرئيس السابق " حافظ الأسد " التي حدثت في غمرة سلسلة من التغيرات الدولية والإقليمية الهامة ، وتسلم الرئيس الحالي " بشار الأسد " في ظروف تواتر ا ستحقاقات داخلية وخارجية ، تزحزت وطأة القمع قليلاً ، وتم الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين ، وخاصة من القوى غير الإسلامية .. وأطلت على المشهد السياسي ملامح عهد جديد نسبياً ، تحت عنوان ملتبس " الإصلاح ولقاء الآخر " .
ومثلما كان السجن امتحاناً قاسياً للمعتقلين ومعيار قناعاتهم السياسية ، كانت المسافة التي أتاحتها مواربة باب الانفتاح ، تحت ضغط ا ستحقاقات لامناص أمام النظام من التعاطي معها ، كانت امتحاناً للقوى والشخصيات السياسية المعارضة ومعيار قناعاتها ومصداقيتها بما وعدت به الشعب .. وقمعت وسجنت من أجله .. ومعيار أهلية الشكل المعارض القائم للتعاطي مع الأوضاع المستجدة .
هنا .. لم يبرز العقل النخبوي المعارض في احتكار السياسة وفي قيادة الصراع وحسب ، وإنما برزت ، وإن تلطت وراء شعار الديمقراطية ، برزت التجاذبات " المفهومة " لخلفيات مختلف القوى ، السياسية والعقيدية والمصالحية ، المكونة للحراك المعارض . لذا .. لم ’تقدم قيادات المعارضة على بذل جهود مبرمجة لإنهاض القوى الاجتماعية ( الجماهيرية ) . ولم تبادر بتحركات اجتماعية معيشية ووطنية جاذبة للطبقات الشعبية ، يمكن ا ستخدامها في كسر حواجز القمع والمنع وتعطيل آليات النظام في التأثير على تحديد سقوفها السياسية والعملية ، ولم تتمكن من إيجاد صيغة تعددية متجانسة للحراك المعارض وفق معايير القيم الموضوعية المطابقة ، ولم تتمكن أن تتجاوز أطر العمل النخبوي ( مع الاحترام لكل التضحيات ) ، الذي تجلى في العرائض والإعلام وببعض الاعتصامات .
بإيجاز .. يمكن القول ، أن الفعل النخبوي العاجز عن إنهاض معارضة شعبية واسعة أو غير مؤمن بدور الطبقات الشعبية ، قمع النظام وتضييقه باشكال متعددة لتحجيم الفعل المعارض ، الذاتية المفرطة والانشداد إلى الخلفيات العقيدية والسياسية والمصالحية ، أو الهوى باستبدالها حسب موضة العصر الذي شكل مناخ الجري وراء الخارج والافتتان بمتغيراته وآفاقه وفعالياته ، وتغييب الدور الداخلي الوطني والاجتماعي .. كل ذلك هو من خلق أزمة المعارضة وأوصلها إلى ما آلت إليه . وكل تصد لعلاج هذه الأزمة دون أخذ كل ذلك جدياً بعين الاعتبار هو كما الحرث في الماء .